حوكمة الحوكمة

​​كثر في الآونة الأخيرة استخدام مصطلح "الحوكمة"-المُعرًب عن المصطلح الإنجليزي "Governance"-في التعبير عن التوجهات الحثيثة صوب تعزيز الشفافية، والافصاح، والمساءلة، والرقابة، والمشاركة في جميع الأنشطة الاقتصادية داخل الدولة؛ كوسيلة فعالة لضمان تحقق الكفاءة الاقتصادية في هذه الأنشطة، وضمان تحقيق النمو المستدام. فمن المعلوم أنه لا يمكن لأي اقتصاد حديث أن يُحقق معدلاً مرتفعًا ومستدامًا للنمو، دونما تحقيق الكفاءة في إدارة موارده الاقتصادية النادرة، ودونما تخصيص وتوجيه هذه الموارد للأولويات التنموية. ولذلك، فالحوكمة-وفق هذا المفهوم-لا تستهدف أنشطة القطاع الخاص في الدولة فحسب، بل أصبحت أنشطة القطاع العام تحوز، هي الأخرى، على اهتمام متزايد من دعاة الحوكمة.

ومع تعاظم حاجة الدول النامية لرفع كفاءة أنشطتها الاقتصادية؛ كان من المنطقي أن تبحث هذه الدول لنفسها عن طريق ينتهي بها إلى عالم "الاقتصاد المحوكم". ولتحقيق هذه الغاية؛ ذهبت بعض الدول النامية لاستيراد نموذج الحوكمة المطبق في الدول المتقدمة، مع الاعتماد على ما صاغته المنظمات الدولية من مؤشرات لقياس وتقييم نموذجها للحوكمة. وفي المقابل، حاولت دول نامية أخرى تعبيد طريقها الخاص في تطبيق هذه الحوكمة، ودون أن يعني ذلك تجاهلها الدروس المستفادة من تجارب الدول المتقدمة. وبين هاتين المجموعتين من الدول، وسواء كانت الحوكمة خاصة بالشركات أو بالقطاع العام، أرى أن هناك خمس ملاحظات يتعين أخذها في الاعتبار؛ حتى يصبح ثوب "الحوكمة الرشيدة" ملائماً لخصوصية الدول العربية، وهي كالتالي:

الملاحظة الاولي: لا حوكمة رشيدة بدون تكنولوجيا متطورة. فعندما تكون الشفافية والإفصاح ضمن الممارسات الرئيسة للحوكمة، وبما أن التكنولوجيا هي الأداة الأكثر فاعلية في الربط بين أطراف أي منظومة؛ فإن الدول العربية مدعوة لتطوير البُنى التكنولوجية في مؤسساتها العامة، ولتيسير حصول المؤسسات الخاصة على هذه التكنولوجيا؛ حتى تتمكن المؤسسات العامة والخاصة من تحقيق الشفافية والإفصاح. ومن أوضح الأمثلة على أهمية التكنولوجيا في تعزيز الشفافية والإفصاح، أن الجهد الضريبي (نسبة الضرائب لإجمالي الدخل الوطني) لأي دولة عربية، سينمو عندما تقل عمليات التهرب الضريبي. ولن ينكمش هذا التهرب إذا لم يتطور النظام الضريبي تكنولوجيًا، وإذا لم تُربط جميع مكونات هذا النظام تكنولوجيًا فيما بينها.

الملاحظة الثانية: في حوكمة الشركات، الرقابة الخارجية لا تعني التقييد، وخصوصا "الرقابة الواعية" من جانب الأجهزة الحكومية. فرقابة الدولة على أنشطة الشركات الخاصة التمويلية في البورصة وفي الجهاز المصرفي، والاستثمارية في قطاعات الإنتاج المادي والخدمي، والتشغيلية في أسواق السلع والخدمات، لا يجوز أن ينظر إليها على أنها معوق لمناخ الاستثمار. فالمناخ الجاذب للاستثمار، هو ذلك المناخ الذي تتحقق فيه العدالة في "سوق" الفرص الاستثمارية، وتنتفي فيه محفزات الفساد والمحسوبية. ولن يحدث ذلك دون رقابة حكومية واعية بأولويات التنمية المستدامة.

الملاحظة الثالثة: في محاولات تطوير أنشطة القطاع العام، الحوكمة لا تعني الخصخصة؛ ذلك أنه بسبب تزامن دعوات الحوكمة مع إجراءات طرح بعض الشركات للخصخصة (الكلية أو الجزئية)، حدث تداخل شديد، وخلط واضح بين مصطلحي الخصخصة والحوكمة. ولأن الخصخصة ليست بالضرورة مدخلاً لتحقيق الكفاءة الاقتصادية؛ فلا بديل إذن عن فض الاشتباك بينها وبين الحوكمة؛ حتى نحافظ على نقاء مصطلح الحوكمة. وعموما، ولكي نتجنب هذا التداخل والخلط، فإن أجهزة تطبيق الحوكمة في القطاع العام يجب أن تُعلي هدف تحقيق الكفاءة الاقتصادية دون غيره من الأهداف.

الملاحظة الرابعة: في الإنفاق العام، حوكمة الحماية الاجتماعية وأنظمة الضمان الاجتماعي لا تعني تقليل الدور الاجتماعي للحكومة. فإذا كانت الأخلاق وحدها لا تبرر الإنفاق على الضمان الاجتماعي، ولكن هذا الضمان يجد تبريراً قوياً لدوره في استدامة النمو الاقتصادي؛ فإن ذلك يُعدٌ كافياً بأن يقتصر هدف حوكمة النفقات العامة على الأنشطة الاجتماعية، في أن تذهب هذه النفقات لمستحقيها، وفي معالجة مشكلة تسربها لغير مستحقيها.

الملاحظة الخامسة: لن يُكتب النجاح لنموذج الحوكمة إلا إذا وضع هدف حماية البيئة نصب عينيه دائماً. فعندما تهمل برامج الحوكمة في بلداننا العربية هدف حماية الموارد الطبيعية من النضوب، وحماية المناخ من التلوث؛ ستتراجع قدرتها على تعزيز الكفاءة الاقتصادية، وسيقل دورها في تحقيق النمو الاقتصادي المستدام. وكيف لا، وأغلب الاقتصاديات العربية تعتمد، بصورة أساسية، في توليد ناتجها الوطني على أنشطة الزراعة الحساسة للتغيرات البيئية، وعلى أنشطة الاستخراج المهددة دائماً بالنضوب؟

ولأني أعتقد أن حوكمة كافة الأنشطة الاقتصادية في الدول العربية، باتت مدخل رئيس لتحقيق طفرة في النمو الاقتصادي في هذه البلدان، فإني، في الوقت ذاته، أرى أن ثوب الحوكمة، بشكله المستورد من الخارج، لن يلائم هذه البلدان؛ إلا إذا أُعيد حياكته ليراعي ما بها من خصوصية، وهو عين ما أقصده من حوكمة الحوكمة!

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة