إعادة التفكير في تقديم الخدمات الحكومية


  • التعاقد الخارجي والشراكات والعملاء والمتطوعون من أهم مرتكزات إدارة العلاقة مع مزودي الخدمات الخارجيين
  • علاقة المنظمات الحكومية بمزودي الخدمات الخارجيين تحكمها المنافع والتكاليف وتحتاج لقدرات إدارية وتنظيمية محددة

 

"المد والجزر" هو أنسب وصف يمكن إطلاقه على تتبع دور، وتدخل الدول في تقديم الخدمات الحكومية؛ فهذا الدور يتأثر بالمتغيرات التي تجتاح العالم وإعادة النظر في تقديم هذه الخدمات، إضافة إلى ظروف كل مجتمع. فالدور الرئيسي للقطاع العام حديث نسبياً، وذلك منذ نهايات القرن التاسع عشر، حيث الثورة الصناعية والتوسع التجاري والحاجة لتأسيس البنية التحتية وخاصة خدمات النقل، وكذلك اضطرار الحكومات لاتخاذ تدابير خدمية للتخفيف من المشكلات الاجتماعية كالفقر. وقد كانت الدول تستعين في فترات زمنية مختلفة بجهات أخرى غير حكومية لتقديم تلك الخدمات، وفي فترات أخرى كان يقتصر دورها على خدمات محددة كالدفاع والشئون الخارجية وإصدار القوانين. لذلك نطالع معكم في هذا العدد كتاب "إعادة التفكير في تقديم الخدمات الحكومية: إدارة العلاقة مع مزودي الخدمات الخارجيين"، وهو من تأليف "جون ألفورد"، و"جانين أوفلين"، وقام بترجمته للعربية د.محمد بن ناصر البيشي، وهو أحد إصدارات معهد الإدارة العامة لعام 2018م.

مفارقة

يتكون الكتاب من: مقدمة، و11 فصلاً، بالإضافة إلى الخاتمة ومراجعه. ويبلغ عدد صفحاته 350 صفحة. يستهلها المؤلفان بإبراز الجهود والخدمات الحكومية المقدَمة خلال كوارث "تسونامي" والزلازل التي اجتاحت اليابان عام 2011م، ويؤكدان على مفارقة ملفتة للنظر وهي أن الوظائف الجوهرية التي تؤديها الحكومة للمواطنين تعتمد فيها على المنظمات غير الحكومية أو الأفراد لتحقيق أهدافها. وعلى صعيد آخر، ينظر المؤلفان للكتاب باعتباره متميزاً في عرض نظرة شمولية للعلاقة بين الأجهزة الحكومية ومزودي الخدمة الخارجيين من أربعة محاور متعددة، وهي: أولها أنه يؤخذ في الاعتبار نطاق واسع لمزودي الخدمة الخارجيين، وثانيها أنه يؤخذ في الاعتبار مجموعة متعددة من الآليات التي قد تطبقها الأجهزة الحكومية لتحفيز هؤلاء المزودين على المشاركة، وثالثها أنه يشمل مجموعة متعددة من الحوافز التي تفسر أسباب مشاركة الأطراف الخارجية في تحقيق الأهداف العامة، ورابعها أنه يناقش على نطاق واسع العوائد والتكاليف التي قد تؤخذ في الاعتبار عند تقييم إمكانية "التعاقد الخارجي" للخدمات، ومن هم الأطراف الخارجيون الذين سيتولونها.

يصحبنا الكتاب في فصله الأول إلى "تحديد ملامح المشهد المتغير في تقديم الخدمات العامة"، ويلفت إلى أن موجات الإصلاح الإداري في القطاع العام لدى البلدان المتقدمة خلال العقود الثلاثة الماضية أدت إلى تعاظم الدور الذي تؤديه الحكومة في خدمة مجتمعاتها، وتضاؤله في ذات الوقت؛ فقد انحسر دور الحكومة نتيجة ترسيخ حقيقة أن الخدمات العامة يمكن أن يقدمها عن إحدى المنظمات الحكومية مجموعة متنوعة من الأطراف الخارجية، إلى جانب الإنتاج الداخلي، إضافة إلى بيع المرافق العامة لخدمات، مثل: الكهرباء والغاز والمياه والنقل للقطاع الخاص. ويعود المؤلفان للتأكيد أيضا على وجود المفارقة، والتي تتمثل في وجود علاقة طردية بين تخلي الحكومة عن دور إنتاج الخدمات العامة إلى الأطراف الخارجية، والتوسع في هذا الدور من نواحٍ أخرى؛ وهذا بسبب حاجة الجهات العامة للتفاعل مع هذه المؤسسات الخارجية للحصول على إسهاماتها المثمرة، وذلك من خلال عدة آليات، كالتعاقدات، والشراكات، والتعليم، وغيرها. ثم يتتبع الكتاب تطور تقديم الخدمات غير الحكومية منذ العصور القديمة، ومروراً بالثورة الصناعية خلال القرن الـ 19، وخلال سبعينيات القرن العشرين، كما يبرز المؤلفان أيضا تنوع مزودي الخدمات الخارجيين، كالشركات الخاصة، أو الهيئات التطوعية، أو المتطوعون، أو العملاء، وغيرهم.

منافع وتكاليف ودوافع

ويسلط الفصل الثاني الضوء على "المنافع والتكاليف"، من خلال طرح التساؤل "ما الذي تسعى إليه المنظمات الحكومية من مزودي الخدمات الخارجيين؟"، حيث يرى الكتاب أن موجة الخصخصة الأولى قد اجتاحت كل أرجاء العالم منذ ثمانينيات القرن الميلادي المنصرم، والنظر إلى شراكة الأداء بين الشركات الخاصة ومثيلاتها الحكومية، وهنا لاح في الأفق أن التعاقد الخارجي قد بدا كحل جيد في بعض الأحوال. وفيما يتعلق بتقييم المنافع والتكاليف، فإنه ليس مجرد مسألة مقارنة سعر تقديم الخدمة مع السعر الذي يقدمه مزود خارجي. وهذا الفصل من الكتاب يجعل القارئ ملماً بجميع تفاصيل مصادر الكسب من الخدمات، أو توفير التكاليف التي تدعم المزايا المحتملة من التعاقد الخارجي بمزيد من الدقة؛ إذ أن هذا التعاقد قد يؤثر في الموقف الإستراتيجي للجهاز الحكومي. ويناقش الفصل الثالث "الدوافع والآليات" والمحفزات التي من المحتمل أن تؤثر في مزودي الخدمات الخارجيين، ويخلص المؤلفان إلى أنه مثلما تسعى الجهات الحكومية لشيء ذي قيمة من مشاركة المزودين الخارجيين-كما أوضحا في الفصل الثاني-، كذلك يتوقع هؤلاء المزودون شيئاً في المقابل، ولكن يكمن التحدي بالنسبة للأجهزة الحكومية في المساعدة على وضع إطار محدد لشروط هذا التبادل؛ حتى يحقق كلا الجانبان القيمة التي ينشدها. وفي الفصل الرابع يتناول الكتاب موضوع "إسناد الأعمال للغير والتعاقد مع المنظمات الأخرى"، حيث يوضح أن التعاقد الخارجي من أكثر أنواع إسناد الأعمال للغير شيوعاً، والذي ازداد شيوعاً في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، ولطالما كان مثاراً لكثير من الجدل بشأن قدرته على تقديم القيمة مقابل المال، وأخلاقيات التشغيل، وآثارها في المساءلة والحوكمة، كما أن هذا النوع من التعاقد تختلف مدى ملاءمته وفاعليته من موقف لآخر.

الشراكة والمتطوعون والعملاء

ويتابع الكتاب في الفصل الخامس استعراضه إحدى آليات إدارة العلاقة مع مزودي الخدمات الخارجيين" وهي "الشراكة والتعاون مع المنظمات الأخرى"، فيبين أن مصطلح الشراكة أصبح مشهوراً للغاية، وينبغي تبني الشراكة متى توافر شرطان، وهما: اشتراك المنظمة الحكومية ومزود الخدمة الخارجي في الإنتاج يخلق قيمة أكثر من قيمة كل منهما على حده، ولدى الشريك الحكومي وسائل لحث هذا المزود على العمل بطريقة تسهم في تحقيق القيمة المطلوبة. وفي هذا الصدد يركز هذا الفصل على عدد من النقاط، وهي: معنى الشراكة والتعاون، والشركاء، والتعاون ودورة حياته، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، والشراكات المجتمعية، والمشاركة والتعاون باعتبارهما بديلاً لإسناد الأعمال للغير والتعاقد. ويبحث الفصل السادس في "الاستعانة بالمتطوعين" الذين يؤدون بعض المهام إلى جانب موظفي المنظمات الحكومية، فهم قريبون منها، وينافسون موظفيها. ولكن من الناحية الأخرى، لا ينعمون بالمزايا المادية التي ينعم بها هؤلاء الموظفون؛ ولذلك بإمكانهم ترك العمل في أي وقت دون أي عواقب مالية، ولذلك يعتبرون أطرافاً خارجية. وتعد الموازنة بين هؤلاء المتطوعين والموظفين ضمن أعمال المنظمة هي الطريقة المثلى للاستفادة من المتطوعين. ويركز الفصل السابع على الخاضعين للتنظيم بوصفهم مشاركين في النواتج الاجتماعية، وهؤلاء هم الأفراد أو المنظمات التي تخضع لالتزامات تفرضها الجهات الحكومية، ويسهمون في تحقيق الأهداف العامة. وينتقل الفصل الثامن للتركيز على أحد مزودي الخدمات، وهم "العملاء بوصفهم مشاركين في الإنتاج"، إذ يطرح نوعاً من أنواع العلاقات التبادلية بين منظمات القطاع العام وعملائها، ويقترح كيفية تحسينها. فغالباً تجني هذه المنظمات شيئاً قيماً من عملائها، وهو إسهامهم في تحقيق مخرجاتها، مقابل تقديم بعض المنافع للعملاء، وهكذا يمتد تأثير عملية تقديم الخدمة الخاصة للعملاء إلى خلق القيمة العامة للمواطنين.

إطار عمل وقدرات

ويدور الفصل التاسع حول "الإدارة في مجال شبكات الأطراف المتعددة من مزودي الخدمة"؛ إذ أن العديد من حالات التعاقد الخارجي تتضمن العديد من القطاعات، وقد تتخذ صورة شبكات داخل القطاع نفسه، إذ تعمل المنظمة الحكومية مع اثنين أو أكثر من الجهات التابعة للقطاع الخاص، أو من مزودي الخدمات الآخرين. بينما يستعرض المؤلفان في الفصل العاشر "إطار عمل الطوارئ لقرارات اللجوء للتعاقد الخارجي"، حيث يسعى هذا الفصل للتقريب بين مزودي الخدمة الخارجيين الذين تم استعراضهم بالتفصيل في الفصول السابقة من هذا الكتاب، وذلك من خلال إطار عمل لاتخاذ القرارات فيما بينهم، كما أنه يؤكد على أن الاستفادة منهم من عدمه ونوعها هو أمر استثنائي طارئ، إذ يعتمد على الظروف المحيطة. أما الفصل الحادي عشر، فيتطرق إلى "القدرات التنظيمية لإدارة التوريد الخارجي"، ويعمل على تحديد المهام المستخدمة في التعاقد الخارجي، ويحلل الكفاءات التي يحتاجها العاملون في القطاع العام ممن يتعاملون مع مزودي الخدمات الخارجيين، وكيف تحتاج المنظمات الحكومية التي يعملون فيها إلى تجهيز نفسها لاستغلال التعاقد الخارجي أفضل استغلال، وكيف تحتاج بيئة القطاع العام إلى التشجيع على التغيير من أجل تيسير هذه الاتجاهات الجديدة.​

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة